السياسة والأخلاق

السياسة والأخلاق

د. عدنان السيد حسين

أستاذ الدراسات العليا في كلية الحقوق والعلوم السياسية بالجامعة اللبنانية

يقال في تداولات العامة من الناس، وخاصة في بلادنا المربية والإسلامية، أن السياسة “حرتقة “، أو “فذلكة”، أو “التفاف ودوران “، أو “مكر ودهاء”… إلى آخر ما هنالك من أوصاف مقيتة تبعد السياسة عن معناها وأهدافها الإنسانية.

لا يا أيها السادة، السياسة علم وفن. إنها علم حكم الدولة، أو صنع الدولة، أو إدارة شؤون الدولة والمجتمع. وهي فن الإدارة والقيادة واتخاذ القرار في الظرف المناسب.

بتعبير آخر، السياسة هي لخدمة الصالح العام، أو لتحقيق الخير العام، أو لبلوغ النفع العام، بعيداً عن الفساد والإفساد. لذلك، قيل بأن علم السياسة هومن أنبل العلوم، وأهمها، نظراً لما يختزن من قواعد وأفكار ونظريات وجدت لخدمة الإنسان والمجتمع، بل لخدمة الأمم والشعوب والأسرة الدولية، أو الجماعة الدولية.

على ذلك، نؤمن بارتباط السياسة بالأخلاق. ونعتقد بأن ابتعاد السياسة عن الأخلاق، يعني تحويلها إلى ممارسات قهرية وعنيفة، أو إلى منفعة على حساب مصالح الناس، أو استئثار مدان بموارد الشعب وثرواته.

التحلل من الأخلاق يقود إلى غلبة القوة على الحق، والى طغيان المادية على الإنسانية. إنه نوع من السباق إلى الظلم والاستبداد والغلبة، كسباق التسلح، على سبيل المثال لا الحصر، بعيداً من معالجة الفقر والمرض والجهل ومظاهر التخلف كافة.

لذلك، لا خشية أمام الساسة الإصلاحيين من اتهامهم بالمثالية إذا ما التمسوا الأخلاق فكرا وممارسة، في الحكم والإدارة. فالالتزام بجوهر الشريعة من حيث هي تحقيق الصالح العام، وخدمة الإنسان المستخلف في الأرض والتمسك بالقيم والأخلاق في العمل السياسي، ليس مدعاة للخوف أو الحذر من طغيان الفلسفة المادية التي زحفت تحت عناوين الثورات الصناعية والإلكترونية لتسليع الإنسان والمجتمع والدولة.

التمسك بالقيم والأخلاق تأكيد لإنسانية الإنسان، التي أرادها الدين، أو سعى إليها القانون طبيعياً كان أم وضعيا. من هنا أزمة الماديين، حتى لو ادعوا الواقعية في الممارسة السياسية؛ لأنهم اصطدموا ويصطدمون اليوم بمعضلات الفقر وتدمير البيئة الطبيعية والأزمات المالية والاقتصادية العالمية، وقبل ذلك وبعده: تهديد السلم والأمن الدوليين.

ونقول: إن الأخلاق عامل مساعد على تبديد القلق. قلق الفرد والجماعة، قلق الدولة والنظام الدولي. وما زال هذا القلق مرافقا للبشرية منذ أن دعا أفلاطون إلى الدولة المثلى، دولة العدالة. ومنذ ان اعتبر أرسطو الدولة وسيلة لنشر الفضيلة وتحقيق الخير العام.

واتصالاً مع الفكر المسيحي والحضارة المسيحية، دعا القديس توما الإكويني إلى الانصياع للقانون الإلهي في معرض البحث عن سعادة الإنسان. ولم يتجرأ الماديون، كما المثاليون، في الغرب على التهرب من موجبات الأخلاق رغم طغيان المادة، حتى إن عالم الاجتماع الألماني “ماكس فيبر” دعا في مطلع القرن العشرين للتمسك بالتقاليد والأعراف الاجتماعية السائدة، واعتبرها مصدراً مهما من مصادر شرعية السلطة السياسية.

كيف تترسخ التقاليد، إذا لم تنبثق من حقائق المجتمع الدينية والثقافية المتوارثة؟

وعند الغوص في الحضارة الإسلامية نجد أساسا راسخاً للأخلاق دينا وفلسفة وثقافة واجتماعاً. فالحديث الشريف الصحيح “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” قاعدة موجهة للإنسان والمجتمع، وتاليا للسياسة والسياسيين. وانه لأمر عظيم أن ترتبط البعثة النبوية بالأخلاق، وأن يجتهد لاحقاً الفقهاء والفلاسفة في وضع الأخلاق مرتبة عليا لإدارة شؤون الحياة الدنيا.

إن الدعوات الأخلاقية لابن رشد، وابن خلدون، مستمرة في مداها الإيجابي. باختصار إنها دعوة لاحترام إنسانية الإنسان، ولا يتحقق ذلك بمجافاة الأخلاق والقيم، بل بالتمسك بهما. وما تيار الجامعة الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلا صدى لهذه الدعوة تحت عنوان التجديد الحضاري، والتجديد الفكري، والتجديد الفقهي. إنه تيار أخلاقي بامتياز يصب في بحر الحضارة الإنسانية.

لا نغالي إذا قلنا بأن الأخلاق ركن ركين في المعتقد الإسلامي، وفي الفكر الإسلامي. ونستدرك لنقول: إن التركيز على الأخلاق لا يعني التنكر للحقائق المادية في الكون، ولحقيقة أن الدولة كيان مادي إلى جانب كونها كيان معنوي. علينا التعامل مع الاقتصاد والاجتماع والتقنية. مع الحضارة والحداثة. مع العلوم المادية كما العلوم الإنسانية. بيد أن الاعتراف بالواقعية لا يعني بأننا نقز بماديتها المطلقة، ولا نأخذ بفلسفة القوة التي تتبنى. إننا مع الواقعية الإنسانية، التي تلتقي مع المثالية في إنسانية الإنسان، في الخير العام، في التقدم ومواجهة التخلف. ولسنا مع الواقعية المادية التي تطلق العنان لهيمنة القوة على مقدرات الشعوب ومصالحها المشروعة. فالقوة ليست هدفاً لذاتها، إنها لهدف إنساني أو هكذا يجب أن تكون في عالمنا الذي يضج بالأزمات والنزاعات.

على هذه القاعدة الدينية والفكرية ترفض معايير الأخلاق الازدواجية بين القول والعمل، بين التصريح والممارسة، بين الشعار والتطبيق. يجب أن يقترن القول بالعمل، وأن تكون وسائل العمل أخلاقية ذات مضمون إنساني عميق. جاء في كتاب الله:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)، (الصف:3-2).

إنها آية واضحة في معناها ومبتغاها، تنبه الإنسان إلى الابتعاد عن النفاق والكذب، وكيف إذا كان النفاق سياسياً يطاول حياة المجتمع والأمة ؟

النفاق السياسي مأساة من ماشي العصر الذي نعيش. كم من الوعود باسم الديمقراطية والتنمية والعدالة وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية في مقابل التخلي عن هذه الشعارات البراقة؟

نجد في الممارسة تسلطاً وقهراً وفساداً في غير مجال، ما يناقض أخلاقية الإنسان أياً يكن موقعه في الدولة والمجتمع.

إن وسائل العمل السياسي يجب أن تكون شريفة، نظيفة، منزهة عن الفساد والظلم. ومن يتبنى شعار (الغاية تبرر الوسيلة) يخالف شرع الله، كما يخالف حتى جوهر القانون الوضعي المتجسد في العدل والإنصاف.

إن الوسيلة الوضيعة تأخذ من أهمية الهدف مهما كان ساميا. والانحدار القيمي والأخلاقي لا يحقق هدفاً عظيما للشعوب.

إن سرقة الثورة بواسطة الانتهازيين والفاسدين والمنافقين لا تستوي مع أخلاقية الثورة والثوار.

الثورة الحقة هي ثورة التغيير الإيجابي لصالح الشعب، وبقدر ما تعتمد وسائل أخلاقية مشروعة بقدر ما تجند الجمهور، وتحشد قواه المادية والمعنوية من أجل تحقيق أهدافه النبيلة.

ومن مدركات الوسائل الأخلاقية، أو الوسائل النبيلة، تبرز الكلمة الطيبة. التي تعني في ما تعني اعتماد الخطاب السياسي الرصين. خطاب وطني غير فئوي. خطاب جامع لا يأخذ بالفتنة وسيلة أو غاية. خطاب إنساني يراعي الكرامة الإنسانية. خطاب ثقافي له بعد حضاري وليس خطاباً منحطاً لا طائل منه.

الكلمة الطيبة، تلتقي مع الموعظة الحسنة من حيث آثارها الإيجابية في العامة من الناس. الكلمة الطيبة هي بنت الحكمة بعيداً من المراهقة السياسية، أو التطرف السياسي. الكلمة الطيبة لا تأتلف مع التطرف، ولا تحمل في طياتها معالم العنف أو الإرهاب أو التخوين أو التكفير.

الكلمة الطيبة مادة الوسطية الفكرية في العلاقات بين الدول والجماعات. وكم من القادة الذين دخلوا عقول وقلوب الشعوب بواسطة الكلمة الطيبة؟

في المقابل، كم من القادة الذين أدينوا من شعوبهم، وشعوب العالم نتيجة الانحدار الأخلاقي في خطابهم السياسي؟ الكلمة الطيبة، أو الموعظة الحسنة، تقود إلى الابتعاد عن التحقير والشتائم في السياسة. إنها أساس صلب لاحترام الرموز الدينية والوطنية والعالمية بعيدا من السفاهة والتفاهة.

يمكن أن ننتقد أي موقف سياسي دون اعتماد ألفاظ نابية، أو عبارات منافية لأخلاقنا الوطنية والإنسانية. وعليه، فإننا نجد ضرورة ترشيد الخطاب السياسي بعيدا من اللعن والشتائم. والمعني هنا بهذا الخطاب الحزب السياسي والقائد السياسي والمسؤول السياسي… فالمسؤولية رعاية، وعناية، واستعداد لمكاشفة الشعب بالحقائق.

ثمة مجال أخلاقي آخر لابد من خوضه ونحن نقارب المسؤولية السياسية، إنه الصدق والنية الحسنة. ولطالما أشار الفكر الإسلامي إلى النية الحسنة في العبادات والمعاملات، كما أن الفكر الغربي في بعض مدركاته توقف عند النية الحسنة كما فعل أحد مؤسسي القانون الدولي المعاصر الفقيه الهولندي غروسيوس وهو يدعو إلى اعتماد النية الحسنة معياراً للعلاقات بين الدول والجماعات. والنية الحسنة لا تمني البساطة، أو السذاجة، بقدر ما تعني الإيمان بالكرامة الإنسانية من منطلق أخلاقي قيمي. إنها، (أي النية الحسنة) تقود إلى رفض اغتياب الآخر، فالغيبة مرذولة ديناً وأخلاقاً.

صار التمسك بالقيم والأخلاق حقاً من حقوق الإنسان، مكرساً في القواعد الدولية الناظمة للعلاقات بين الدول والشعوب. وثمة احترام للخصوصية الثقافية، والحضارية، لجميع الشعوب، على الأقل في الإطار النظري. قد يقال وماذا عن انتهاكات حقوق الإنسان دونما رادع من أخلاق في غير مكان من العالم؟

أشارت مبادئ منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) إلى أن (لكل ثقافة من الكرامة والقيمة ما يستوجب احترامها وصونها).

وأكدت المادة 18من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على حق كل إنسان في حرية الفكر والوجد ان والدين.

وجاء في مطبوعة الأمم المتحدة (حقوق الإنسان: أسئلة وإجابات، نيويورك، (1987 أن حقوق الإنسان تستند إلى مطلب البشرية المطرد في حياة تحظى فيها الكرامة والقيمة المتأصلتين في كل إنسان بالإحترام والحماية…

وعليه، عندما نتحدث عن الأخلاق في السياسة كونها جزءاً من الثقافة العربية والإسلامية، فإننا نستند إلى التراث وفي الوقت عينه إلى القواعد الدولية والمواثيق الدولية. والخطأ عندنا إذا لم نلتزم بهذه القواعد، ولم نساهم في إغنائها حضارياً وانسانياً.

ثمة أمراض خبيثة تفتك بمجتمعاتنا، منافية للقيم والأخلاق. أمراض تطغى على الحياة السياسية، ونعتقد بضرورة معالجتها دفاعا عن أنفسنا وعن الأسرة الدولية: الفساد الأخلاقي في الممارسة السياسية، وفي الإدارة العامة، وفي إدارة الأعمال ذ ات الطابع الخاص. لابد من إعادة الاعتبار إلى حماية المال العام من عبث الفاسدين والمفسدين، فالسرقة حرام، وهي جريمة يعاقب عليها القانون.

شهادة الباطل أمام القضاء. إنها من أخطر الأمراض المنافية للشرع والوضع. وهي تعطيل السياسة والأخلاق لحكم القانون في إطار العدالة. نحن في حاجة إلى ثورة لاستعادة القيم، أو لترسيخ القيم بعيدا من الكذب والنفاق والتزوير والتضليل. نحن معنيون باعتماد خط الاستقامة في السياسة والقانون والاقتصاد، بل في حياتنا العامة، وهناك ربط في العقيدة والشريعة بين الاستقامة والتوحيد عملاً بالآية الكريمة (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (فصلت: 29).

التهرب من دفع الضرائب، من طريق الوساطة والمحسويية والزبائنية، أو من خلال التزوير والتدليس وسوء استغلال السلطة. لابد من تعزيز أجهزة الرقابة المالية والإدارية بعيدا من نفوذ الحكام والسياسيين الممارسين. وأجهزة الرقابة هذه امتداد لعمل القضاء وإنفاذ القانون، وإذا ما تذرع المسؤولون بالقاعدة العامة (الضرورات تبيح المحظورات) فإن مجال التطبيق هو الصالح العام وليست مصلحة فرد مهما علا شأنه.

العبث بالانتظام العام بإثارة الغرائز الطائفية والمذهبية والعرقية والأقلوية بعيداً من مفاهيم الخير العام والمواطنة. إنه تهديد مباشر للدولة كمؤسسة عامة عليا، وتهديد للمؤسسات الفرعية المنبثقة منها، وتهديد لوحدة المجتمع. بتعبير آخر، هناك من لا يتورع عن إثارة النزاعات والحروب الأهلية توخيا لبقاء سلطته أو للحفاظ على ماله المسروق من جهد الناس البسطاء.

علينا التشدد في قمع هذه الظاهرة بواسطة أحكام القضاء، وبالاعتماد على توعية المجتمع المدني كي يظل موحدا وحاميا لوحدة الدولة ومؤسساتها، وبالانخراط في فكرة المواطنة ثقافة وممارسة.

اعتبار الألفاظ النابية في الخطاب السياسي، وعبر وسائل الإعلام، منافية للآداب العامة، ويستحق مطلقوها الجزاء أمام القانون. لابد من اعتماد أخلاقيات المجتمع في السياسة، والإعلام السياسي بعيداً من التحريض والتشهير والقدح والذم. ولابد من الابتعاد عن سلبيات السلطة بما تنطوي عليه من فساد وافساد.

من القضايا المعيبة أن نتجاهل آلام الشعوب أيام الكوارث الطبيعية والنزاعات الداخلية والحروب. هناك بون شاسع في عالم اليوم بين قلة تستأثر بالمال والثروات في مقابل كثرة ساحقة من البؤساء والفقراء والمهمشين اجتماعيا.

إن الدعوة إلى العدالة الدولية في هذا المضمار ليست مجرد يوتوبيا عالمية، بقدر ما هي واجب إنساني، واجب أخلاقي، واجب اجتماعي، وواجب ديني أولا وأخيرا.

إن التمسك بالأخلاق في السياسة، أوتحصين السياسة بالأخلاق، واجب على الدول والمجتمعات المدنية. ونحن في حاجة إلى ثورة أخلاقية قيمية تصون الإنسان والمجتمع، وتواجه الانحطاط الحاصل بالثقافة والعلم، بالتوعية والرشاد، بالإخلاص والصدق، بالتعفف والموعظة الحسنة… فهل نحن فاعلون؟

طالع ايضا : كيف تؤسس شركة مساهمة في الكويت

Share